مبدأ استقلال القضاء
المقدمة
نجد أنَّ السلطة التنفيذية تمارس المهام و الاختصاصات التنفيذية في الدولة منها الإدارية و المالية و تنفيذ القوانين كما نجد أن السلطة التشريعية تمارس المهام التشريعية و الرقابية في بعض الأنظمة السياسية وفي الوقت نفسه توجد السلطة القضائية وهي تمارس مهمة تطبيق القوانين و حسم النزاعات و الرقابة . و بالرغم من أن الدساتير عادة ما تنصّ على وجود هذه السلطات ، بيد ان الملاحظ عليها انها تولي الاهتمام و الحرص على تبيان تشكيل السلطتين التشريعية و التنفيذية وتفصل مهامهما ماخلا السلطة القضائية حيث تكتفي الدساتير بتبيان الخطوط العامة و الرئيسة في تنظيمها واختصاصاتها تاركة التفاصيل للقوانين العادية ، و بالتالي فإن الدستور يترك السلطة القضائية مرهونة بيد السلطة التشريعية من زاوية تنظيمها ، فأما تأتي نصوص القوانين مفصلة بشأن تنظيم هذه السلطة و بيان اختصاصاتها أو على العكس قد تأتي مختزلة ، و الخشية تكون أن تأتي النصوص حاملة في طياتها جوازاً لتدخل السلطة التنفيذية بتنظيم السلطة القضائية .
وهكذا نكون أمام احتمالات كثيرة بشأن تدخل السلطتين التنفيذية و التشريعية بعمل السلطة القضائية . من النقطة المتقدمة يظهر مبدأ استقلال القضاء بوصفه من المبادئ الدستورية التي تجعل السلطة القضائية بعيدة عن احتمالات التدخل في اختصاصاتها من قبل باقي السلطات . لذا كان لزاماً توضيح ماهية مبدأ استقلال القضاء وتطوره و ارتباطه بالحقوق و المبادئ الدستورية الأخرى، وبيان استقلال القضاء عن باقي السلطات في الدولة، ثم الاسترسال في بحث ضمانات الاستقلال .
المبحث الأول : ماهية مبدأ استقلال القضاء
للإحاطة بماهية مبدأ استقلال القضاء لابد من أن نوضح تعريفاً له وثم نبين حدوده ، ثم نحدد الأسباب التي تدعو إلى تركيزنا على مبدأ استقلال القضاء دون غيره من سلطات الدولة .
المطلب الأول :- تعريفه
بدت اغلب تعريفات مبدأ استقلال القضاء بأنه :- (( قاعدة تنظم علاقة السلطة القضائية بغيرها من سلطات الدولة ، قائمة على اساس عدم التدخل من قبل باقي سلطات الدولة في امور القضاء ، وذلك بإعطائه سلطة دستورية مستقلة عن باقي السلطات )) .
و إذا كان التعريف المتقدم يركز على استقلال السلطة القضائية فإن الاستقلال لا يتوقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى استقلال كل قاضي على حده .
وهكذا نكون أمام ما يعرف باستقلال القضاء و المقصود به انحصار الوظيفة القضائية بالقضاء وعدم تدخل السلطتين التنفيذية و التشريعية كما نكون أمام استقلال القاضي بعدم التدخل بعمله من أية جهة كانت بغية توجيه عمل القاضي بطريقة معينة أو لتعرقل مسيرته أو لتعرض عن أحكامه ، بمعنى أن استقلال القاضي يجعله متمتعاً بحرية إصدار الحكم بالمسائل المعروضة عليه بحيث يحكم استناداً إلى الوقائع بموجب القانون بعيداً عن التدخل أو المضايقة أو التأثير من جانب الحكومة أو من يمثلها أو التدخل و التأثير الذي ينشأ بين القضاة أنفسهم بسبب اختلاف المنصب الإداري فيما بينهم أو اختلاف مستويات محاكمهم ، فالقضاة جميعهم مستقلون لا يتبع أحداً منهم احداً آخر مهما علت درجته أو ارتفع مقامه ، فالاستقلال يكون بعدم تبعية القضاة لأي فرد كان سواء أكان قاضياً أم لا ، مما يوجب عدم تجاوز الرئاسة الإدارية حدود توزيع العمل لأن الرئاسة الإدارية بطبيعتها تفسد مضمون العمل مهما تقيد نطاقها القانوني ، كما أن التبعية الرئاسية تنطوي على معاني القهر و الإخضاع وتحد من قدرة المرؤوسين على الاستقلال برأيهم ، و النأي عن التأثير بتعليمات الرؤساء . كما يجب أن يتمتع القاضي بالحصانة القضائية التي تعني عدم مقاضاته بدعوى مدنية لكلمات قيلت أو أعمال مارسها خلال ممارسته لمهنته كما يجب أن يكون بعيداً عن الاعتقال العشوائي – بغير حالات الجرم المشهود – إلا بموافقة مجلس القضاء .
وقد عرف النظام الانكليزي استقلال القاضي من خلال منعه بالعمل في السياسة وان لا ينخرط في مجالات سياسية وعدم السماح لمشاعره السياسية أن تؤثر في حكمه ، كما انه ممنوع من الترشيح لعضوية البرلمان ، فضلاً عن أن رواتب القضاة تدفع من صندوق خاص مما يجعل القاضي مستقلاً مالياً عن الحكومة .
المطلب الثانيً :- حدوده
اذا كان مبدأ استقلال القضاء يعني تحصين السلطة القضائية من التدخل ، فهل هذا المبدأ يعني الانفصال التام للقضاء أو التحرر المطلق له عن باقي السلطات ؟
ربما تسهل الإجابة إذا ما حددنا فيما إذا كان استقلال القضاء وسيلة ام غاية بحد ذاتها .
فإذا ما قلنا إنها غاية – جدلاً – فإننا قد نسمح بالتحرر المطلق أو الانفصال التام للقضاء مما ينذر باستبداد محتمل للقضاء أو ما يعرف بنشوء حكومة القضاة .
أما إذا قلنا أن الاستقلال وسيلة توصل لتحقيق أهداف اخرى من ابرزها سيادة القانون و حماية الحقوق و الحريات فإن استقلال القضاء بهذا الوصف لا يتعدى حدود عدم التدخل بشؤونه من قبل باقي السلطات من دون ان يصل الى الانفصال أو الانعزال . فالاستقلال يعني عدم خضوع القضاء في تنظيمه إلا لسلطة القانون بحيث يكون عمل القضاء في سبيل إقرار الحقْ و العدل خاضعاً لما يمليه عليه القانون وضمير القاضي واقتناعه الحر السليم .
استناداً لهذا فأن استقلال القضاء لايلغي علاقة السلطة القضائية بغيرها من السلطات ، سيما ان السلطة التشريعة تمارس دوراً مهماً في تنظيم القضاء من خلال اصدار التشريعات ، كما أن السلطة التنفيذية تمارس دوراً غير قليل بما يختص بالشؤون الإدارية لأعضاء الهيئات القضائية ( في بعض الأنظمة و منها اليمن .
المطلب الثالث :-أسباب التركيز على مبدأ استقلال القضاء
لماذا تكون الدعوة بقوة إلى تطبيق مبدأ استقلال القضاء ولا يدعى بالقوة نفسها إلى استقلال السلطتين التشريعية و التنفيذية ؟
بداية يجب القول إن مبدأ الفصل بين السلطات ( الذي سيأتي بيانه ) يكرس مفهوم الاستقلال لجميع السلطات ، بتحديده مهام محددة لكلّ منها ولا يسمح بتدخل أية سلطة على صلاحيات الأخرى ، ولكن مبدأ فصل السلطات لم يكن حائلاً دون تدخل باقي السلطات في عمل السلطة القضائية بأشكال مختلفة ، مما جعل التركيز منصباً على تكريس مبدأ استقلال القضاء للأسباب الاتية :-
1. ان السلطة القضائية تقف ازاء سلطتين أقوى منها فالسلطة التشريعية تمثل إرادة الشعب ، وتصدر تشريعات ملزمة للسلطة القضائية و لغيرها ، اما السلطة التنفيذية فتزاول اختصاصاتها من خلال إصدار قرارات تنظيمية وتكون مسؤولة عن تنفيذ القوانين فضلاً عن دورها في التدخل بتنظيم الجهاز القضائي ، وبالتالي نجد ان اختصاص السلطة التشريعية و التنفيذية ايجابياً في حين ان اختصاص السلطة القضائية سلبياً في الأعم الأغلب ، فهو يقتصر على تطبيق القانون في حالة الطلب من احد المتنازعين ، أي بمناسبة إقامة الدعاوى ، وبالتالي يتبين ضعفها إزاء باقي السلطات .
2. إن طبيعة الوظيفة القضائية قائمة على تحقيق العدالة وحماية حقوق الافراد و حرياتهم و احترام القانون توجب عدم التدخل في عمل القضاء حتى يتمكن من تحقيق وظيفته وبخلافه فإن القضاء سوف يحقق أغراضه مما يؤدي إلى حدوث الاضطراب في المجتمع و زعزعة الثقة بالقانون لدى الافراد .
3. مادام القانون يمثل قوة الزام لأفكار سامية و موضوعية حيادية و لا تميل أي ميل طبقي أو عشائري أو حزبي أو شخصي ، إلا ان هذه الأفكار الملزمة لا تستطيع تطبيق نفسها بنفسها ، مما يتطلب وجود جهاز قضائي يتمتع بالمواصفات نفسها التي يتمتع بها القانون من سمو و موضوعية و حيادية ، مما يستوجب التركيز و المناداة بضرورة استقلال القضاء .
4. وكون القضاء يمثل الوسيلة المتاحة و السهلة للمواطنين للجوء إليه في عرض ظلماتهم بمعنى أن القضاء يمثل في نظر الأفراد الجهة الحيادية لذا فإن الإصرار و المنداة باستقلاله يعزز ثقة المواطنين بالدولة من جهة و من جهة أخرى يولد الشعور لهم بالأمان و الطمأنينة و التفاؤل بوجود جهة مستقلة قادرة على حمايتهم سواءً من الحكومة أو المؤسسات أو الأفراد .
ولكن هل المناداة بهذا المبدأ تتوقف عند حد عدم تدخل باقي السلطات في عمل القضاء، أم أنَّه يحمل معنى متوازن و متقابل أي وجوب عدم تدخل القضاء في عمل باقي السلطات ؟
أن القضاء يتمتع بالولاية العامة على الاشخاص و المنازعات في الدولة كافة ، لذا فأن وظيفته هذه تستوجب مراقبة عمل السلطة التشريعية حيناً فيما يعرف بالرقابة على دستورية القوانين ، أو النظر بعمل السلطة التنفيذية حيناً اخر عند الفصل في الخلافات التي تكون فيها الحكومة ومن يمثلها طرفاً فيها أو طرفاً وحيداً فيها كالقضايا المتعلقة بالفساد الاداري على سبيل المثال ......
المبحث الثاني : ضمانات استقلال القضاء
إن مبدأ استقلال القضاء نتيجة حتمية لتبني مبدأ الفصل بين السلطات بوصفه ضمانة أكيدة للحقوق و الحريات وسيادة القانون و تحقيق العدالة أمراً نظرياً ما لم يحصن بمجموعة من الضمانات التي من شأنها تطبيق المبدأ على أرض الواقع وتعمل على ديمومته واستقراره في التطبيق العملي ، فالخشية تبقى قائمة من تدخل السلطة التشريعية تارة أو من خلال تدخل السلطة التنفيذية تارة أخرى بأعمال القضاء و شؤونه واختصاصاته أو بأستقلال القاضي و التأثير في قراراته لحسم الدعاوى بأتجاه معين خارج الاتجاه الذي تتحقق فيه العدالة ويفض المنازعات أو يتمتع المتخاصمين بعدالة القضاء .
لذلك تسعى الدساتير عادة إلى تحصين مبدأ استقلال القضاء بأشكال مختلفة من الضمانات من أهمها ما يأتي :-
المطلب الأولً :- الرقابة الدستورية على دستورية القوانين .
تعد الرقابة الدستورية واحدة من اهم الضمانات التي تكون بيد السلطة القضائية التي تواجه بها باقي السلطات خصوصاً السلطة التشريعية ، فكما ان للسلطة التشريعية حق التدخل الإيجابي بشؤون تنظيم القضاء من خلال إصدار القوانين فإن الخشية قائمة بأن يكون مثل هذا التدخل انتقاصاً أو اعتداءً على استقلال القضاء ، لذا فإن الدساتير تعطي الإمكانية للقضاء بأن يقف ضد إجازة أو نفاذ مثل هذه التشريعات التي تخالف الدستور مادامت تخالف مبدأ استقلال القضاء و سواه من المبادئ الدستورية الأخرى .
وحسناً فعل دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وكذا الدستور اليمني حين أناط بالمحكمة العليا صلاحية الرقابة على دستورية القوانين و الأنظمة النافذة وذلك في م /93 الفقرة اولاً . عراقي م 153 الفقرة أ
و مما تجدر الإشارة إليه أن الدستور اليمني قد نص على هذه الضمانة كما نصّ على مبدأ استقلال القضاء مما يدعو إلى القول ان المبدأ في الدستور اليمني كان مجرد نظرية مثالية تحتويها النصوص فقط
المطلب الثاني :- الاستقلال الإداري للقضاء
يكون تنظيم الشؤون الإدارية للقضاء بعيداً عن تدخل السلطة التنفيذية واحدة من الضمانات المهمة التي تسهم في ترسيخ مبدأ استقلال القضاء وديمومته واستقراره في التطبيق ، فمسائل تعيين القضاة و عزلهم ونقلهم وترقيتهم و أحالتهم على التقاعد ومساءلتهم تأديبياً أو جنائياً أو مدنياً كل هذه المسائل يجب ان تنظمها السلطة القضائية نفسها وبعيداً عن تدخل السلطة التنفيذية .
و بهذا الصدد وقع الدستور في مأزق دستوري كبير حين نص على اعضاء السلطة القضائية ( اعضاء النيابة والقضاة ) غير قابلين للعزل في ذات الوقت الذي جعل للقانون – السلطة التشريعية والتنفيذية المتمثلة في وزارة العدل – سلطة نقلهم بل وعزلهم وتنظيم كافة شئونهم الادارية , و عادة ما يطالب القضاة في العالم عند وجود المجلس الأعلى للقضاء أن تكون أغلبيته منتخبة من القضاة أنفسهم وعدم اقتصار تشكيله على عدد من الشخصيات القضائية بحكم مناصبهم الرسمية لأن ذلك يؤدي إلى تبعيتهم للحكومة بشكل يؤدي في معظم الأحيان إلى الاصطدام بمصالح القضاة أو غير معبر عن مطالبهم .
وحري بالإشارة إلى أن السلطة القضائية و القضاة كانا مرتبطين إداريا بوزارة العدل بموجب قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 1991 المعدل النافذ .
المطلب الثالث :- الاستقلال المالي للقضاء .
ان تأسيس ميزانية مستقلة للقضاء تشكل إحدى الضمانات المهمة في تأكيد مبدأ استقلال القضاء ، فكلّما كان هناك استقلال مالي وميزانية خاصة بالقضاء كلما قلت الضغوط و التأثيرات في عمل السلطة القضائية من قبل السلطة التنفيذية .
وبهذا الصدد نجد الدستور اليمني جعل للقضاء موازنة سنوية مستقلة ويتولى مجلس الاعلى للقضاء دراسة واقرار مشروع موازنة القضاء تمهيدا لادراجها رقما واحدا في الموازنة العامة للدولة . م 152 الا ان هذا النص ظل طي النسيان ومعطل بفعل تدخل السلطتين التنفيذية والتشريعة في اقرار ميزانية القضاء احيانا بما يخالف احتياجات السلطة القضائية
المطلب الرابع :- الاستقلال الوظيفي للقضاء
ومفاد هذه الضمانة أن يستقل القضاء باختصاصات معينة و حصرية لايمكن للسلطتين التشريعية و التنفيذية ان تتدخل بتلك الاختصاصات سواء بمباشرتها أو التعقيب على عمل السلطة القضائية بإصدار القوانين أو القرارات التي من شأنها إيقاف تنفيذ أحكام المحاكم أو التحقيق في تلك الأحكام .
وضمن هذا المفهوم فإن الاستقلال الوظيفي يوجب وحدة النظام القضائي وعدم إنشاء محاكم مؤقتة أو استثنائية أو خاصة، بل يجب ان يكون النظام القضائي موحداً ماسكاً بزمام السلطة القضائية بمفرده وذلك كونها تتمتع بالولاية العامة على الأشخاص و الأموال جميعاً ولها حقّ الفصل في المنازعات كافة.
واستقلال القاضي الوظيفي لايقل شأناً عن الاستقلال الوظيفي للقضاء ، لذا يجب ان يكون عمل القاضي منحصراً بالعمل القضائي فقط ،ولا يجوز له مزاولة أي عمل آخر بجانبه ، وبهذا الصدد فإن الدستور اليمني لم ينص صراحة على هذا المنع بل انه لم يجيز نقل القضاة الى الوظائف الغير قضائية الا بموافقتهم وموافقة المجلس وجاء القانون ونص صراحة على ذلك منع القاضي وعضو الادعاء العام الجمع بين الوظيفة القضائية و الوظيفتين التشريعية و التنفيذية أو أي عمل آخر ، كما حظر عليه الانتماء إلى أي حزب أو منظمة سياسية أو العمل بأي نشاط سياسي .
خاتمة
وما نريد أن نستخلصه في الختام، هو أن اليمن في حاجة إلى ولوج عهد جديد، تكون ميزته إقامة ديمقراطية حقيقية، لا تنحصر في ترديد مجموعة من الشعارات، وكتابة بعض المبادئ في الدستور، وإقامة واجهات شكلية، وإنما ديمقراطية تتبلور من خلالها سيادة الشعب، ودولة المؤسسات التي تكون فيها السلطة القضائية مستقلة وبعيدة عن أي تأثير، لتضطلع بدورها كضمانة أساسية لاحترام حقوق الإنسان، وحماية الحريات الفردية والجماعية، وإقامة العدل في المجتمع، في ظل المساواة وسيادة القانون